سماح إدريس و"الآداب": أين يكون النصر؟ فراس الشوفي




سماح إدريس و"الآداب": أين يكون النصر؟
قبل أسبوع، صدر عن محكمة المطبوعات في بيروت برئاسة القاضي روكز رزق حكماً في دعوى القدح والذمّ التي أقامها العراقي فخري كريم ولي، أحدُ مستشاري الرئيس العراقي جلال طالباني وصاحب دار المدى العراقيّة، يقضي بتغريم سماح سهيل إدريس رئيس تحرير مجلّة الآداب بصفته مالكاً وكاتب مقال، وعايدة مطرجي، بصفتها مديرة مسؤولة، مبلغ ستة ملايين ليرة لبنانيّة لكلّ منهما، وإلزامهما أن يدفعا بالتكافل والتضامن مبلغ مئة ألف ليرة كتعويض رمزي للمدعي وبنشر خلاصة عن الحكم على نفقتهما في العدد الأول من المجلّة بعد تبلغهما الحكم.
وجريدة الآداب هي المجلّة الفقيرة التي نعرف، المجلّة المؤمنة بمفهوم محدّد للتجديد من ضمن مفاهيم عامّة اشتغل عليها العشراتُ قبل سهيل وعايدة وسماح من المثقّفين والمناضلين والنهضويين، من تيّارات مختلفة ومناهج إبداعيّة متنوّعة: إنه مفهوم التجديد الملتزم بقضايا المجتمع والأمة. والآداب هي أيضاً ابنة عزيزةٌ للدكتور سهيل، أسوةً برائدة ورنا، أخرجها المزارعُ الذي رحل في زمن التصحّر والعقم من صميم ذاته مجلّة ثقافيّة سياسيّة في العام 1953 مع الراحلين بهيج عثمان ومنير البعلبكي، قبل أن يستقلّ عنهما في العام 1956 ويبقى رئيساً لتحريرها حتى العام 1992. "رَحْ جرّبْ كفّي"، قالها سماح حين الوداع الحاسم، من على باب مدفنٍ متواضعٍ في مقبرة الشهداء، المثوى الأخير للدكتور سهيل، على مقربةٍ من غسّان كنفاني وكمال خير بك، هناك حيث سكن قبل عامين، بعد هدير نصف قرنٍ من النضال والثورة. 
الافتتاحية ـ القنبلة
كتب سماح افتتاحيّة "الآداب" الشهيرة في العدد 5/6 أيار - حزيران 2007، وهي تحت عنوان "نقد الوعي النقدي: كردستان – العراق نموذجاً". في هذه الافتتاحية ينتقد سماح "مهرجانَ المدى الثقافي الخامس" الذي انعقد في أربيل بين 29 نيسان و6 أيّار من العام نفسه، وحضره أكثرُ من 800 مثقّف عربي وكردي وأجنبي، و"أقيم برعاية نظامٍ حَفرتْ طريقَه الدبّاباتُ الأميركيّة" كما يقول وائل عبد الفتّاح ("إلى كردستان ذهبنا ورأينا"، الأخبار 12/5/2007). وعلى أثر الافتتاحية المذكورة تقدّم فخري كريم بدعواه.
جاء في افتتاحية إدريس نقد لاذع لمثقفين أفنوا عقودا في إشاعة أفكارهم الحداثية، لكنهم ما لبثوا أن امتدحوا السلطات و"الاعتدال" و"المرونة"، فأسهموا في أن ينمّوا في عقول القرّاء "التفكيرَ الأصولي والفكرَ التقليدي اللذين حاربهما أؤلئك المثقّفون (وبتفانٍ أحياناً) كلّ ذلك الزمن". وسماح في هذا يشير إشارة واضحة إلى أنّ معركة السّؤال والشكّ، التي ينبغي على كلّ مثقّف ملتزم أن يخوضها، هي معركة لا تستهدف الأفراد وأذواقهم في الأكل والملبس، بل هي معركة ثقافيّة سياسيّة بين تيّارين ونهجين مختلفين: الأوّل تحرّري علماني قومي لا يضع حدّاً للنقد في القضايا التي لها علاقةٌ بمصلحة وطن وشعب؛ والآخر يضع يداً على إحدى عينيه ليبرّر رؤيته نصفَ الحقيقة، ولا يلتزم مثقّفوه إلا بمهاجمة النظام السوري والمقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة، ويصمت صمتَ القبور عن الحريريّة والوهابيّة والتطبيع مع "إسرائيل"، ويمتدح المرونة المصريّة والعقلانيّة الغربيّة والنظامَ الذي أفرزه الاحتلالُ الأميركي بعد أن عاث قتلاً وتهجيراً بالشعب العراقي وتدميراً وسرقة لثروات العراق.
وإذا كان سماح قد ذكر في افتتاحيّته عدداً من المثقّفين وأشار إليهم، ومن بينهم الزميل فخري كريم، فلأنّه لا يحبّ المواربة، ولا يتقن استعمالَ أدوات "التجهيل" لينسب الأمورَ إلى "البعض" أو إلى "أحدهم". بل أكثر من ذلك: فبرأي سماح، كما أخبرني في زيارة له إلى مجلة الآداب، أنّ "أيّ مثقّف لديه رسالة ولا يوصلها إنما هو يقدح بنفسه ويذمّ. وإذا كان ديكارت قد قال انا أفكّر إذا أنا موجود، فأنا مثقّف إذا أنا أشكّ"! هذا، وكان سماح قد تحدّث في افتتاحيّته بالتفاصيل عن مظاهر "الديموقراطيّة" المزيّفة في كردستان، وعن توقيف الصحافيين، وعشرات المعتقلين، وجرائم الشرف التي تزايدت، وعن مكاتب الموساد التي صرّح عنها رئيسُ مكتب الموساد السابق هناك أليعازر جيزي تسافرير (والتصريحات موثّقة في الجرائد "الاسرائيليّة")، وعن الصراعات الداخليّة بين القيادات الكرديّة في الفترة السابقة للاحتلال، والتي سقط جرّاءها الآلافُ من الأكراد. 
الدعوى
فوجئ الدكتور سماح بشخص يطلب منه التوقيعَ على دعوى أقامها عليه، وعلى المجلّة ومديرها المسؤول، السيد فخري كريم. وقد ذكر في مقدّمة صغيرة نشرها بالمناسبة، مع نصّ الدعوى (التي نُشرت بحرفيّتها مع أخطائها اللغويّة والمطبعيّة)، في العدد 12 كانون الأوّل 2007 من الآداب، أنّه توقّع أن يردّ كريم بالقلم والفكر كما اعتاد معشرُ الكتّاب فعلَه، وكما فعل أدونيس وخالد سليمان وبدرخان علي حين ردّوا على الافتتاحيّة التي ادّعى عليه كريم بسببها، ونشرت "الآداب" الرّدود بعد أن نُشرتْ في أمكنة أخرى.
 وكان كريم قد رفع دعواه على الدكتور سهيل إدريس وسماح إدريس وعايدة مطرجي إدريس، قبل أن يرفع المسؤوليّة عن الدكتور سهيل. وعلل ذلك بأنّه سعى مع محاميه لإخراج الدكتور سهيل، ولولا الإشكاليّة القانونيّة لطلب إخراج عايدة أيضاً، لأنّ المقصود في الدعوى هي "مجلّة الآداب الحاليّة في صيغتها الراهنة"، أيْ في عهدة سماح. فردّت عايدة في مقال بعنوان "إنها آداب واحدة" (وهو أجمل ما كُتب في الدفاع عن "الآداب" بنظر سماح) مطالبةً كريم بأن تشمل دعواه العائلةَ برمّتها ودارَ الآداب أيضاً.
يشير وكيل كريم المحامي أحمد الزين في نصّ الدعوى إلى أنّ سماح هاجم في افتتاحيّته، "بعبارات جارحةٍ ومهينةٍ وبعيدةٍ عن الموضوعيّة والنقد المباح، المهرجانَ ومكانَ انعقاده ورئيسَ دولة عربية (الرئيس جلال طالباني)، وتقصّد بصورة خاصّة - عن سابق تصوّر وتصميم وبسوء نيّة - مهاجمة منظّم المهرجان المدّعي فخري كريم، متعمّداً التعرّض لشخصه ونشاطاته وتاريخه وعلاقاته والمسّ بشرفه وكرامته، ناسباً إليه جرائم السرقة والسطو على أموال مؤسّسات وجمعيّات والعمالة والخيانة والتجسّس وشراء ضمائر المثقّفين والصحافيين العراقيين والعرب وكمّ أفواههم عن قول الحقيقة..." ويتابع نصّ الدعوى أنّ مقال إدريس بدأ بنقد المثقّفين العرب الذين يتصدّون "للبنى التقليديّة المتخلّفة والغيبيّة العربية والسلطات القوميّة المستبدّة والظلاميّة الإسلاميّة واليسار الديكتاتوري... ثمّ ينتقل إلى نقد مهرجان المدى الثقافي الخامس... لينتهي تحت عنوان مفاجئ وغير مبرّر: فخري كريم: وأخيراً لا آخراً هل يعرف المدعوون ممّن طبل وزمر لإنجازات كردستان الديموقراطيّة من هو مدير مهرجان المدى فخري كريم؟". ويعلّق نصّ الدعوى على المقال في النقطة الثانية من الباب الثالث "في الوقائع" أنّ "للسيّد سماح إدريس حقّه باتخاذ الموقف السياسي الذي يريد وبالتعبير عن آرائه في شتّى المواضيع" (ترى، أكان على سماح توجيه كتاب شكر على إعطائه هذا الحقّ؟!) "لكن ليس من حقّه أن يتجاوز حدود النقد المباح وقواعد البحث الموضوعي وآداب المهنة وقيمها، إلى سلوك الكراهية والإهانة وتعمّد المساس بكرامة الشخصيّات الأدبية المرموقة كالأستاذ فخري كريم والتشهير به وتحقيره من خلال اتهامه بارتكاب جرائم مخلّة بشرفه وأخلاقه، هي أوّلاً وأخيراً افتراءات لا أساس لها من الصحّة". ويستنتج النصّ أنّ سماح أشار "إلى أنّ الأديب المناضل فخري كريم سارق لأموال الحزب الشيوعي العراقي وأموال مجلّة النهج وأموال دار المدى" (والكلام للزين لأن سماح لم يذكر كلمة "سارق") وأنّه "مجرّد شيوعي عراقي قديم على صلة بمخابرات صدّام نفسه في الستينات والسبعينات، فضلاً عن المخابرات العربية والأميركية والبريطانيّة..." (والكلام أيضا للزين لأن سماح لم يتحدث عن كريم هنا بل عن "بعض الشيوعيين العراقيين القدامى/الجدد")، وأنه "مجرّد متموّل عراقي كبير حديث النعمة يقيم المهرجانات الثقافيّة...".
وذكرت الدعوى أنّ مجلّة الآداب "مجلّة ثقافيّة"، وبالتالي فإنّها خالفت المادة 13 من قانون المطبوعات المرسوم الاشتراعي رقم 104/1977. وهو أيضا أمرٌ أخطأ فيه الزين لأنّ مجلة الآداب (لو يعلم) ذات ترخيص سياسي!. ويضيف أنّ افتتاحية إدريس "خالفتْ قانون المطبوعات لنشرها مقالاّ سياسيّاّ تجاوز حتى البحث السياسي الرصين إلى أنواع شتّى من الذمّ والقدح والشتم السياسي..."، وخالفتْ المادة 23 من القانون نفسه بتعرّض سماح في مقاله إلى الرئيس العراقي جلال طالباني حين "اتهمه بالسعي لشراء ضمائر المثقّفين والصحافيين..." ويختم الزين هذه الفقرة باعتبار ما ذكره سماح عن الطالباني، وبموجب المادّة 23، "محرّكاً لدعوى الحقّ العام دون شكوى المتضرّر" (طالباني في هذه الحالة). وهنا يحاول نصّ الدعوى التحريض الواضح من أجل الادعاء على المجلّة، أو تسطير تهم الحقّ العامّ بحقّها.
ويستند نصّ الدعوى بشكل رئيس على المادّة 385 عقوبات الذمّ: "نسبة أمر إلى شخص، ولو في معرض الشكّ أو الاستفهام ينال من شرفه وكرامته، وكل لفظة ازدراء أو أسباب... وقد ينسب الجاني الواقعة الماسّة بالشرف أو بالكرامة على سبيل الجزم واليقين، أو على سبيل الشكّ والاحتمال، وهو في الحالتين يرتكب جرم الذمّ. وكذلك الأمر بالنسبة إلى تعابير التحقير". كما تستند الدعوى إلى المواد 17 و18 و20 و21 من قانون المطبوعات (المرسوم الاشتراعي رقم 104 تاريخ 30/6/77) ولأحكام المواد 582 و583 و584 عقوبات.
وذكر نصّ الدعوى أيضاً المادّة 583 عقوبات التي لا تسمح، بحسب الدعوى، "لمرتكب الذمّ (أي سماح)، تبريراً لنفسه، أن يقوم بإثبات حقيقة الفعل موضوع الذمّ أو بإثبات اشتهاره". ويضيف الزين بثقة مفرطة: "نؤكّد جازمين أنّ المدّعى عليه سيكون عاجزاً عن إثبات صحّة أيّ أمر مما نسبه للمدعي في مقاله المشكو منه". 
ما قاله سماح ... وما قاله غيرُه
لم يقل سماح في افتتاحيّته أكثر مّما قاله باقر إبراهيم، عضوُ المكتب السياسي سابقاً في الحزب الشيوعي العراقي، والقياديُّ السابق آرا خاجادور، وآخرون كثر. فما قاله سماح لا يعدّ نقطة في بحر ما كتبه هذان الرجلان وغيرُهما، قبل الدعوى وبعدها، عن الزميل فخري كريم ولي، حين ردّا (ابراهيم وخاجادور) على بيانٍ أصدره ثلاثة من القادة السابقين في الحزب (عزيز محمد، عبد الرزّاق الصافي، كريم أحمد) وبرّأؤا فيه فخري كريم من "التجاوز على ماليّة الحزب الشيوعي العراقي" مؤكدين أنّه كان له "دور كبير في تعزيزها".
 فباقر إبراهيم يقول في مقاله "شهود الزور وقضيّة فخري كريم" (الآداب العدد 4/5/6 2008، والنص الأصلي موجود على موقع البديل العراقي www.albadeeliraq.com) إنّ معارضته المسلك الذي دافع عنه القادةُ الثلاثة المذكورون كانت تمتدّ للفترة التي كان يتولّى فيها مسؤوليّة قيادة الحزب في العراق (تشرين الأول 1978 – آب 1979). وفي تمّوز 1986 نشر على الرأي العام مذكّرة وقّعها هو والمرحومان عامر عبدالله وحسين سلطان، وأيّدها عدنان عبّاس وآخرون بصفتهم "أعضاء وأعضاء احتياط في اللجنة المركزيّة"، وكشفوا فيها أوضاع الحزب المتردّية عموماً، وذكروا في المقدّمة: "إنّ حفنةً من الرفاق القياديين يتحمّلون مسؤوليّة أساسيّة في دفع الحزب في هذا الاتجاه الخطر والإصرار عليه، وفي مقدّمتهم الرفيق عزيز محمد، يعاونه في ذلك الرفيق فخري كريم وغيره" (نصّ المذكّرة مدوّن في مذكّرات ابراهيم الصادرة عن دار الطليعة – بيروت 2001 ص 428 – 436).
ويذكر إبراهيم في المقالة ذاتها، ما ذكره المرحوم الدكتور رحيم عجينة في مذكّراته "الاختيار المتجدّد" الصادرة عن دار الكنوز الأدبيّة بيروت 1998، إذ يقول في الصفحة 287: "عند تدقيق ماليّة الحزب في اجتماع اللجنة المركزيّة، ظهر أنّ مجلّة النهج، التي أُعلن عند صدورها أنّها مجلّة الأحزاب الشيوعيّة في البلدان العربيّة، وكما ينعكس أيضاً في طبيعة مجلس تحريرها، هي استثمار وملكيّة خاصّة تعود لفخري كريم، وكذلك مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكيّة في العالم العربي، الأمر الذي كان مفاجأة للعديد من أعضاء اللجنة المركزيّة، وأنا منهم..."
ويتابع ابراهيم أنّ فخري كريم اعتُقل، وعضو اللجنة المركزيّة عادل حبّه، في تمّوز 1978 من قبل أجهزة الأمن، إثر لقائهما كممثّلين للحزب الشيوعي بوزير خارجيّة أفغانستان سلطان كشتمند الذي كان يزور العراق آنذاك. ويضيف مستنداً إلى ما ورد في مذكّراته ص 165:
"اتّضح من خلال المعلومات التي أعطاها الاثنان أنّ المعاملة معهما كانت مختلفة تماماً، إذ عومل فخري كريم بلطفٍ ومحاباة وبتوفير سرير مخصّص لمنامه أثناء فترة الاعتقال وحتى خروجه. فقد بيّن أنّ مناقشاته وأحاديثه كان لها تأثير الرضى والارتياح على مستمعيه في مديريّة الأمن العامّة. وقال إنّه وعدهم بالطلب إلى قيادة الحزب استكمال "الحوار" بعد خروجه من الاعتقال، وأنّه الآن يقترح ذلك!...، ثمّ لخّص باقر ابراهيم الموقف وقال إنّ موقف الرفيق فخري كريم وهو سجينٌ في مديريّة الأمن العامّة، واعتقاده بأنّه يفاوض طرفاً سياسيّاً، موقف غير صحيح وينمّ عن الضغط، وكان مفترضاً فيه أن يجيب على الأسئلة التي وجّهت له بِقدرما يتعلّق ذلك بأسباب الاستدعاء والاتهام".
ويشير إبراهيم إلى أنّ أحداً من أعضاء القيادة الذين هاجروا "لم يكن يحمل مبلغاً كبيراً من مال الحزب الشحيح، الذي تُرك لمناضلي الداخل... لقد عرفنا الحاجة، بل والجوعَ أيضاً... والحقّ أنّ جميع التبرعات والهِبات المليونيّة التي دفعت للحزب الشيوعي، والتي أعلن عنها فخري كريم في حديثه مع قناة "العربيّة" (مع تركي الدخيل بعد الدعوى ، 1/2/2008)، تعلن رسميّاً للمرّة الأولى! وأنا، كعضو في المكتب السياسي، وبصفتي المسؤول الأوّل عن التنظيم في الحزب، أذكر أنّه لم تُعرض على المكتب السياسي تلك الهِبات المليونيّة، ولا أسماءُ من سجّلت الأرصدةُ بأسمائهم، ولا المنشآت التي يمتلكها الحزب..."
أما آرا خاجادور، وهو أقدمُ الشيوعيين العراقيين، فيسجّل في معرض ردّه على القادة الثلاثة المتحالفين مع كريم (مجلّة الآداب، المرجع السابق ص 100)، استغراباً شديداً لزجّ عزيز أحمد اسمَه وسط معركة قضائيّة ضدّ مجلّة الآداب، وهو (أي محمّد) يعلم أنّ الهدف من الدعوى/الشكوى التي أقامها فخري كريم على الآداب "مجرّدُ محاولة بائسة ورعناء لإخراس الأصوات الحرّة المساندة للشعب العراقي المحتلّ قهراً وعدواناً، ومجرّدُ محاولة فاشلة لإخراس وتخويف بقيّة الاصوات المتألّمة على شعبنا..." ويضيف أنّ الشكوى "انطوت على محاولة تبرير شخصٍ من دون وجه حقّ، وبما يضرّ بمصلحة الحزب وسمعته وعلاقاته وتاريخه".
ويسأل خاجادور (ص 101): "وهل فخري يا عزيز هو الذي حصل على تعاقد لدعم مجلّة الثقافة الجديدة من مجلّة السلِّم والاشتراكيّة؟ وماذا عن سحب مسؤوليّته عن الثقافة الجديدة في دمشق نتيجةً لضغوطٍ من داخل الحزب؟ وقد اظهر ذلك الإجراء ضعف فخري، وقلّة شطارته وحيلته ومستوى مهارته المهنيّة، وتحوّل إلى عاطل عن العمل. وكان حبل نجاته هو الاحتراف الحزبي، الظاهر لنا على الأقلّ، إذ لا موارد معلنةً عنده. وأنت أعطيته الضوءَ الأخضر لتأسيس مجلّة النهج، ولكنّ تأسيس النهج أطلق يد فخري من دون حسيب أو رقيب، وضاع الخيطُ والعصفورُ، الأمر الذي أثار استياء الأشقّاء...".
وقد علّق خاجادور على دعوى فخري كريم قائلاً: "فعوضاً عن مقارعة الحجّة بالحجّة، والرأي بالرأي، هروَلَ إلى المحاكم! ونقول له إنّ أصحاب الفكر شجعانٌ في الدفاع عن أفكارهم؛ وهذا ينطبق على القائمين على الآداب، التي لم يقدّم لها البنتاغون بنساً واحداً، وأخشى أن أقول فلساً واحداً مخافة ألا يُفهم قصدي من جانب الحديثي النعمة، خاصّة إذا كانت النعمة من مصادر أجنبيّة، وفي عهد بناء "الديموقراطيّة" تحت حراب المحتلّ ومن دماء أبطال العراق..." ويضيف (ص 102):
"كان من الأنسب أن تطالبوا فخري بأن يقدّم شهادةً ملموسةً، لا على غرار تلك التي طرحها عبر قناة "العربية"، خاصّة في الجوانب الماليّة. فقد تحدّث عن دعم ماليّ من هذه الجهة وتلك، وعن حجم ماليّة الحزب، ولكنّه لم يحدّد القترة التي يغطيّها المليونُ دولار الذي وصفه بأعلى مبلغ وصلتْ إليه ماليّةُ الحزب. فهل هذا المبلغ عائدُ شهرٍ، أم سنةٍ، أمْ هو مجرّد أعلى رقم وصلتْ إليه ماليّةُ الحزب على الإطلاق... فأنا في تلك الفترة، موضوع الحديث، كنتُ في موقعٍ يَفرض على من كتبوا تلك الشهادة إطلاعي على العوائد الماليّة، بما فيها التي صرّح عنها فخري لتلفزيون "العربيّة" وغيره. وإنّ مجرّد عدم علمي وعدم علم بقيّة المسؤولين في القيادة بها يعني أنّ ثمّة شيئاً وراء الوراء أو خلف الزاوية...". 
لماذا سماح؟ لماذا الآداب؟
بعد كلّ ما تقدّم، لماذا هُدر حبرُ سماح وحبرُ "الآداب" من دون أن يمرّ كريم، ولو سريعاً، على ما قاله وكتبه غيره؟ لماذا امتعض فخري كريم وهبّ للدفاع عن شرفه وكرامته وسمعته أمام القضاء اللبناني بشكل قانوني مستعملاً "الردع الأمني بديلاً من الحوار النقدي" كما قال الصحافي التونسي غسان بن خليفة (القدس العربي 1/2/2008)؟
خطوات اتخذها فخري كريم بالتزامن مع حملة بدأها، بقدرة قادر، عددٌ من "الحداثويين" والمحسوبين عليه، يطبّلون له ويزمّرون، يشتمون "الآداب" وتاريخها بطريقة حاقدة، ويكيلون التهم للمجلّة، ويحرّضون لا على سماح أو سهيل أو عايدة فحسب، بل على الموقع التاريخي لهؤلاء "الحداثويين" بعدما انقلبوا عليه. ومن أقصى يمين المحتلّ، انبرى "الحداثويوّن" للدفاع عن فخري كريم على صفحات "المدى" وغيرها من المطبوعات ولتبرئته مّما عدّه تهماً زوراً وافتراءً.
ولكنْ، بما أنّ فخري كريم، بحسب نصّ دعوى محاميه، "شخصيّة عراقيّة مرموقة ومناضل سياسيّ عريق، ويقوم حاليّاً بمهام كبير مستشاري رئيس الجمهوريّة العراقية، ونشاطاته ومؤسّساته الثقافيّة والإعلامية تجعله على علاقة وطيدة بعدد كبير من الشخصيّات المرموقة الناشطة على الصعد الثقافيّة والسياسيّة والإعلاميّة و..."؛ وبما أنّ هذه العلاقات "مبنيّة في نشأتها وفي استمرارها على سمعته الحسنة ومزاياه الشخصيّة وعلى رأسها الوفاء والصدق والأمانة..."؛ وبما أنّ سماح إدريس (بحسب زعم فخري كريم) يستقي معلوماته من السفارات والمخابرات العراقية السابقة؛ وبما أنّ زملاءه من أنصار "ميثاق الشرف" (وبينهم الرئيس سليم الحصّ) هم من "أجراء الثقافة وتجّار الأسلحة" وزمر عناصر المخابرات العراقيّة السابقة، ومن أفراد جوقةٍ ترافق سماح "في عوائه الكريه وزعيقه المنكر" (بحسب عبد الرزاق رشيد الناصري، أحد أتباع السيد فخري كريم)؛ أقول إذا كان سماح كلّ هذا، فلماذا كلّ الغضب؟
ثمّ من قال إنّ المجلّة الثقافيّة (علما أنّ "الآداب"، كما ذكرنا، ذات ترخيص سياسي) لا تتعاطى السياسة؟ وهل مصالحُ الأوطان، ورفضُ الاحتلال، والمطالبةُ بالحقوق، تنحصر في "السياسة" وتغيب عن التربية والثقافة والفكر؟ ومن قال إنّ الثقافة تنفصل عن السياسة؟ عمّ سيكتب المثقّفون حينها؟ فليقترح علينا دعاة الفصل بين الثقافة والسياسة مواضيع أكثر أهميّة من أمور البلاد والوطن والأمة، فنترك السياسة والثقافة لهم!
ثمّ من يحدّد "النقد المباح"؟ وبأيّ معيار تقاس القيم والمثل؟ وما قيمة النقد إذا "عرف حدّه" فتراجع عن دوره وعلّة وجوده؟ وما هو المباح إذا كان نقد الشخصيّات العامّة يقع في خانة اللاّمباح؟ من يضمن للقارئ في عاملنا العربي أن تُنقل إليه الصورة الحقيقيّة لما يجري حوله، في خضمّ عهر سياسي ثقافي عربي يبيع ويشتري في أسواق البورصة الفكريّة. إذا صمت المثقّفون الملتزمون، فمن ينقد ويحاسب ويسأل؟ وهل تتّفق قيم "الديموقراطيّة" و"الحريّة" و"الانفتاح" التي جاء بها الاحتلالُ الأميركي إلى العراق، على أمل أن تعمّ "الشرق الأوسط الجديد"، مع وضع معايير وحدود للنقد والأسئلة؟
ليس بريئاً أن يُستهدف سماح إدريس وحده؛ فلا طائفة تحميه في "كيان الواسطة"، ولا تظاهرات مليونيّة تجوب الشوارع وتحمل صوره وصور الدكتور سهيل وعايدة والعائلة، ولا مرافق عامّة تسمّى باسمه حين يصلب على مذبح الكلمة الحرّة. وغداً، إذا سقط سماح بما تمثّله "الآداب" فستبدأ أحجارُ دومينو الحريّة الحقيقيّة بالتداعي، وسيُحشر المثقّفون في صفوف طويلة أمام المسالخ ويقولون "أُكِلنا يوم أُكِل الثورُ الأبيض".
لقد أجاد فخري كريم اختيار سماح كهدفٍ لمقاضاته في لبنان وأمام القضاء اللبناني. وأحسن، من بعده، المحامي أحمد الزين حين ذكر المادّة 583 عقوبات التي مررنا على ذكرها سابقاً. فلعلّ هذه الخطوة الأولى، التي انتصر فيها فخري كريم أمام القانون انتصاراً مبيناً، ستتبعها (في حال السكون والخضوع) خطواتٌ مماثلةٌ لإسكات كلّ صوت يقول الحقيقة بلا مهادنة، ويسمّي الأشياء بأسمائها، فتفرغ الساحة لببّغاوات الثقافة وأبواق الطوائف والسلطات.
لقد خرج سماح عزيزاً ومنتصراً بمقياس القيم التي يؤمن بها، مدافعاً شرساً لا يهادن على حقوق شعبه. يقول، وهو يرشف قهوته بصفاء، معلّقاً على الحكم: "أعتبر قرار المحكمة جائراً، وأخشى أن لا يكون القضاء على معرفة تامة بخلفيّة الصراع الفكري والسياسي الدائر في المنطقة، ويتعامل مع الموضوع بحَرفيّة قانونيّة ضيقة، من دون أخذ الاعتبار لما يمثّله فخري كريم، ولدوره في تشويه صورة اليسار، ولموقعه في سلطة جاء بها الاحتلالُ الأميركي". ثم يضيف: "لكن النصر في هذا النوع من المعارك لا يكون في المحكمة. ترى، من يعتقد اليوم، رغم قرار المحكمة ضدي، أنّ فخري كريم على حق في موقفه وموقعه؟!"
من يحمي الكلمة الحرّة ويمنع عنها التهجير؟ من يحمي الإعلام الحرّ الملتزم؟ من يردّ لبنان إلى نطاقه الطبيعي كنطاق ضمان للفكر الحرّ؟
"رح جرّب كفّي"، تلك العبارة التي قالها سماح أمام ضريح سهيل، تُثلج قلبي وعقلي وقلوب الكثيرين وعقولهم، وتدعونا إلى مواصلة النضال الشريف والكلمة الصادقة.
فراس الشوفي
بيروت 8 آذار 2008